سورة الأعراف - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} [الأعراف: 7/ 31- 32].
سبب نزول الآيتين هو: الأمر بارتداء الثياب الساترة، وهو ما رواه مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت في الجاهلية، وهي عريانة، وعلى فرجها خرقة، وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله *** وما بدا منه فلا أحلّه
فنزلت الآية: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ونزلت بعدها: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ}. وفي صحيح مسلم عن عروة قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس: قريش وما ولدت.
والآيتان خطاب عام لجميع العالم، وأمر بهذه الأشياء بسبب عصيان مشركي العرب فيها. إن القرآن الكريم يأمر بكل ما فيه فضيلة ومدنية وتحضّر ونظافة ومروءة من الطّيب والسّواك والثياب الساترة، وكل مستحسن في الشريعة لا يقصد به الخيلاء. والأمر بالسّتر عند كل مسجد: معناه عند كل موضع سجود، وهذا يشمل جميع الصلوات التي يجب فيها ستر العورة، ويدخل مع الصلاة: مواطن الخير كلها.
وتختلف الزينة باختلاف الزمان والمكان والشخص والعمل. وكان هذا الأمر بارتداء الثياب والتّزين سببا لارتقاء العرب وانتقالهم من مظاهر القبلية المتوحشة إلى أرقى مظاهر المدنية والحضارة.
ثم وجّه القرآن الكريم إلى قاعدة أساسية في الطّب وتناول المباحات النافعة، وهي: الأكل والشرب من غير إسراف ولا تقتير، فالإسراف مذموم لتجاوزه حدود الحاجة والاعتدال، والتقتير مذموم لأنه بخل وشحّ، وكفى بالبخل داء، والمطلوب هو الاعتدال في المأكل والمشرب من غير تجاوز الحلال إلى الحرام، ولا الحاجة إلى التّخمة، ولا التقصير في الإنفاق لأنه مضرّة وبخل.
روى الإمام أحمد عن عبد اللّه بن عمرو: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «كلوا واشربوا، والبسوا، وتصدّقوا من غير مخيلة ولا سرف، فإن اللّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده».
وليس أضرّ على الإنسان والأمة من الإسراف، فإنه ضرر وخطر بل وحرام وبطر، كما أنه ليس من الحكمة والخير تحريم الزينة والطّيبات من الرزق التي خلق اللّه موادها لعباده، وعلمهم كيفية الانتفاع بها، فهي مستحقّة مخلوقة لعباد اللّه من المؤمنين وغيرهم عدلا من اللّه وفضلا ونعمة.
لذ أنكر القرآن الكريم على من يحرّم الانتفاع بالمباحات زهدا وترفّعا، فهذا خطأ، فإن الطّيبات من الرزق حلال للناس جميعا في الدنيا، وخالصة خاصة للمؤمنين يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد من الكفار، فإن الجنة محرّمة على الكافرين.
ومثل هذا التفصيل التّام والبيان لحكم الزينة والطّيبات، يفصل اللّه تعالى الآيات الدّالة على كمال الشّرع والدّين، وصدق النّبي والقرآن وإتمام الشريعة لقوم يعلمون العلوم النافعة كعلوم الاجتماع والنفس والطّب والمصالح.
وهذا الاتجاه القرآني في الاعتدال في اللباس والطعام والشراب والانتفاع بمنافع الدنيا الحسنة دليل على أن الإسلام دين الكمال والسّمو، والقوة والمدنيّة والحضارة، والتّقدم والاعتدال، واللّه ولي المتّقين.
أصول المحرّمات في الإسلام:
بعد أن ذكر القرآن الكريم ما حرّمه الكفار المشركون على أنفسهم مما لم يأذن اللّه به، أتبعه ذكر ما حرّم اللّه عزّ وجلّ، ليميّز المخاطب بين الحق والباطل، ويدرك أن التّحريم مرتبط بالضرر والأذى للإنسان نفسه، وليس التحريم أمرا اعتباطيا أو عبثا لا يخدم هدفا ولا يؤدي مصلحة أو يدرأ مفسدة، قال اللّه تعالى:


{قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 7/ 33].
لما لبس المسلمون الثياب بأمر اللّه وتشريعه وطافوا بالبيت الحرام بالزينة التّامة، عيّرهم المشركون بذلك، فقال اللّه لنبيّه المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين حرموا ما أحلّ اللّه من الطّيبات والرزق واللباس: ما حرم ربّي هذا، وإنما حرّم خمسة أشياء هي أصول المحرّمات الضّارة بالفرد والجماعة وهي ما يأتي:
1- حرّم اللّه تعالى الفواحش الظاهرة والباطنة، الجهرية والسّرية: وهي كل ما فحش وقبح من الأعمال المفرطة في الشّناعة، ما ظهر منها للناس وما بطن أو خفي عنهم، وتشمل المعاصي الكبائر لتفاحش قبحها، مثل الزّنى والرّبا والسّرقة والقتل وخيانة الوطن وإذاعة السوء، والخروج على الجماعة، وتفتيت وحدة الأمة، وتهديم بنيتها وحضارتها، وغير ذلك من كل ذنب خطير أو إساءة بالغة. ويعدّ كل ما حرّمه الشّرع فهو فاحش، وإن كان العقل لا ينكره كلباس الحرير والذهب ولو خاتما للرجال ونحوه مما يرتكبه الإنسان ظاهرا أو باطنا.
2- وحرّم اللّه تعالى الإثم: وهو لفظ عام يشمل جميع الأقوال والأفعال التي يتعلّق بمرتكبها إثم أو ذنب، وهو الذنوب الصغائر، وقال بعض الناس: الإثم هي الخمر، محتجّا بقول الشاعر:
شربت الإثم حتى ضلّ عقلي *** كذاك الإثم تذهب بالعقول
3- وحرّم اللّه أيضا البغي: وهو الظلم وتجاوز الحدّ في الفساد والحقوق بالاعتداء على حقوق الناس الآخرين أفرادا وجماعات، سواء أكان التّعدي مبتدءا أو كان صاحبه منتصرا، فإذا جاوز الحدّ في الانتصار فهو باغ. وقوله تعالى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} زيادة بيان، إذ لا يتصور بغي بغير حق لأن ما كان بحق فلا يسمى بغيا.
4- وحرّم اللّه تعالى الشّرك بالله: وهو أقبح الفواحش، وهو أن تجعل مع اللّه إلها آخر من صنم أو وثن أو كوكب أو ملك أو إنسان، لم تقم عليه حجة من عقل ولا برهان من وحي، وسميت الحجة سلطانا: لأنها ترجح قول الخصم على غيره، ويكون لها تأثير على قول السامع وفكره. والشرك لا دليل ولا حجة عليه من عقل ولا نقل، قال اللّه تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117)} [المؤمنون: 23/ 117].
وهذا يشعرنا أو يدلّنا أن الاقتناع بالبرهان والحجة الساطعة أساس بناء العقيدة، وأن الإيمان لا يقبل بغير وحي من اللّه، يدعمه الدليل والبرهان.
5- وحرّم اللّه سبحانه التّقول على اللّه بغير حجة ولا علم، كالافتراء والكذب على اللّه، بادّعاء أن له ولدا أو شريكا من الأوثان، وكتحريم بعض المواشي من بحيرة وسائبة ووصيلة وحام، وتحليل الحرام وتحريم الحلال بلا سند ولا حجة، وهو القول بالرأي المحض من دون دليل من الشّرع، وهو سبب تحريف الأديان، والابتداع في الدين الحق، واتباع الهوى والشيطان، واستحسان الأنظمة المنافية لتعاليم الدين والشرع، وهذا منهج أدعياء التجديد، وتخطي الشريعة باسم الاجتهاد، روى البخاري ومسلم أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لتتّبعنّ سنن من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم، قلنا: يا رسول اللّه، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟».
إن هذه الآية شملت تحريم جميع الجنايات وهي الجنايات على الأنساب كالزّنى والقذف، والجنايات على العقول كشرب الخمر وتناول المخدرات، والجنايات على الأعراض والكرامات كتجاوز حقوق الإنسان والمساس بكرامته، والجنايات على النفوس والأموال كإلحاق الظلم بالآخرين والغصب والسّرقة والنّهب والسّلب، والجنايات على الأديان كالطّعن في توحيد اللّه تعالى وسبّ اللّه والرسول ووصف بعض الأنبياء بصفات لا تليق بهم، فهم المعصومون من الأخطاء الكبائر منها والصغائر.
آجال الأمم والرّسل المرسلين إليها:
الأمم والشعوب والأفراد ترتبط حياتهم بأزمان معينة وتواريخ محددة، والزمان والتاريخ سجل أمين حافل بأعمال البشر، فهم إن ملؤوا صفحة الحياة بأفعال مجيدة تفيد البلاد والأوطان، كانوا مؤدّين رسالة الحياة بأمانة وشرف وكرامة، وهم إن شغلوا أعمارهم وأوقاتهم بالمظالم وتوافه الأمور، كانوا خونة الأمانة وعالة على التاريخ، فالعقلاء هم الذين يعمرون حياتهم بجلائل الأعمال المفيدة للأمة والديار، قال اللّه تعالى مبيّنا قيمة الحياة ومهمّة رسل الإصلاح:


{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)} [الأعراف: 7/ 34- 36].
إن للوقت قيمة كبري وأهمية عظمي، والأجيال المتلاحقة تشغل فترة من التاريخ والزمن المحدّد لها والمقدّر لوجودها وأعمالها، فلكل أمة أي قرن وجيل، ولكل فرد وشيء في الوجود أجل محدد معلوم، وهو الوقت الذي قدره اللّه تعالى لكل كائن حيّ، فإذا انقضى هذا الوقت، وانتهى هذا الأجل المقدّر للأمم والأفراد، انطوت صفحات الأعمال، ولا يتأخّرون عن الأجل ساعة أو أقل، ولا يتقدّمون عنها بساعة وأقل منها.
وإن عزّة الأمم وسعادتها، وخلود تاريخ الرجال أو النّساء مرتبط بامتثال شرع اللّه والتّمسك بالفضيلة، والبعد عن الفاحشة والرذيلة. وشقاء الأمم ونكبتها وطي صفحة أبنائها يكون بالبعد عن أوامر اللّه ودينه، والانغماس في المنكرات، واقتراف جرائم الغش والرشوة والفساد والإسراف والظلم، والتخريب السّري أو العلني.
وإذا كانت الأمم المعاصرة قد تقدّمت فبسبب إصلاح شؤون حياتها، وإذا كانت الأمة الإسلامية متخلّفة فبسبب بعدها عن شرائع ربّها، ومن أخصّها الوحدة والبناء والعمل والتّخطيط والحزم وضبط الموارد وصرفها في أولويات الحياة العزيزة الكريمة.
وأمّتنا هي أولى الأمم بالتمسك بالمثل العليا والقيم الكريمة، لأن دينها يأمرها بذلك.
واللّه بهذه الآية {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} يهدّد ويوعد كل من يخالف الأمر ويسير على غير هدى من اللّه.
وهداية اللّه تعالى تتمثّل في الكتب المنزلة والرّسل المرسلة، وقوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ} خطاب لجميع العالم، وهو إنذار وتحذير للبشر، فإن أتاكم أيها الناس رسل من جنسكم يخبرونكم بما أوجبته عليكم وما شرعته لكم من نظم العبادة والمعاملة والأخلاق، وما نهيتكم عنه من الشّرك وقبائح الأفعال، فأنتم حينئذ فريقان:
فمن اتّقى اللّه وأصلح العمل، وترك الحرام وفعل الطاعات، والتزم الفضيلة واجتنب الرذيلة، فلا خوف عليهم من عذاب الآخرة، ولا يطرأ عليهم حزن على ما فات، ولا جزع على ما مضى. وهذا الفريق هم أهل السعادة والنجاة، وهم الذين شغلوا أعمارهم وأوقاتهم بالنافع المفيد.
والفريق الثاني وهم الذين كذبوا بآيات اللّه التّنزيلية والكونية، ولا سيما آيات القرآن المجيدة، وجحدوا بدلائل التوحيد والألوهية، والأحكام والشرائع الدينية، ورفضوا العمل بآيات اللّه واستكبروا عن قبولها والعمل بها كبرا وعنادا، فأولئك أصحاب النار، ماكثون فيها على الدوام، ومخلّدون فيها إلى الأبد بمشيئة اللّه تعالى.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها} فيه حالتان تعمّ جميع من يصدّ عن رسالة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم، فإما أن يكذب بحسب اعتقاده، وإما أن يستكبر فيكذب، وإن كان غير مصمم في اعتقاده على التكذيب. وفي كلا الحالين يكون المكذب عن عقيدة، والمستكبر عن غير عقيدة في التكذيب من الهالكين الخاسرين الذين ضلّوا الطريق، وأساؤوا القصد والعمل، وانحرفوا عن منهاج الحق الإلهي.
عاقبة الكذب على اللّه تعالى:
ليس هناك أسوأ عاقبة ولا أشدّ افتراء من الكذب على اللّه تعالى، بأن يتقوّل المرء على اللّه ما لم يقله، أو يكذّب ما قاله اللّه، وكأن المكذّب لا يحس في أعماق نفسه بوجود اللّه وعظمته، بسبب غيابه الحسي عنه، ويفتقر في ذاته إلى رصيد كبير من الإيمان يعوضه فراغ القلب، وإقفار النفس، وليته أدرك مصيره المشؤوم ومستقبله المظلم، وهذا ما نبّه إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8